06 - 05 - 2025

صباحيات | أبو زعبل 89 | عندما تعيد السينما بناء الواقع وتجيب على أسئلة شائكة

صباحيات | أبو زعبل 89 | عندما تعيد السينما بناء الواقع وتجيب على أسئلة شائكة

تابعت بانتباه لم يفسد الاستمتاع بفيلم "أبو زعبل 89" للمخرج المبدع بسام مرتضى. الانتباه لأن الفيلم جعل من حدث سياسي من الحوادث المفصلية في نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، وربما في التاريخ السياسي الحديث لمصر، وللاهتمام بمعرفة موقف الجيل الذي تفتح وعيه على هذا الحدث والذي كان القوة الأساسية الضاربة في الانتفاضة التي أطاحت بحكم مبارك بعد عشرين عاماً. أما الاستمتاع بالفيلم، بل الإحساس بالفخر لامتلاك مصر قدرات إبداعية متجددة قادرة على أن تبدع فناً سينمائيا عالي الجودة يباري ما تنتجه صناعة للسينما في بلدان أكثر تقدماً وثراء، وبميزانيات صغيرة وإبداعه في توليد أفكار تعوض نقص الموارد المالية المحدودة اعتماداً على الكثير من العزيمة والإصرار على إنتاج عمل يستحق أن يحصد العديد من الجوائز في مختلف المهرجانات.

فنياً الفيلم الذي كان أبطاله عدد من الشخصيات التي تعرضت للاعتقال في صيف عام 1989 على خلفية إضراب عمال مصنع الحديد والصلب في حلوان ولتعذيب جماعي في السجن والاقتحام المسلح لإنهاء اعتصام العمال وإضرابهم عن العمل والذي سقط فيه أحد العمال بالرصاص، ينتمي لنوع جديد من الأفلام التسجيلية الطويلة التي تستفيد من تقنيات الأفلام الروائية لإعادة تقديم تفاصيل جانب من الحكاية خفي ويعيد طرح أسئلة كبيرة وشائكة وقفت خلف تحولات حادة في مسار تجربة نضالية ممتدة في مصر من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية وعلاقة هذه التحولات الاجتماعية بتحولات عالمية كبرى دفعت الجميع لعمل مراجعات شاملة، بما في ذلك الجيل الناشئ الذي دفع ثمن اختيارات آخرين، بل مراجعة ذاتية. 

الفيلم الذي حضره جمهور ملأ قاعة المسرح الصغير في دار الأوبرا في عرضه الأول في مسابقة أسبوع النقاد التي تُقام ضمن فاعليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وأحسب أن عرضه واحداً من نقاط القوة التي تحسب للمهرجان في دورته الخامس والأربعين قبل أيام من عرضه في مهرجان للأفلام التسجيلية الطويلة في هولندا. وهذا الفيلم مواكب للاتجاهات الحديثة في السينما العالمية كسينما المؤلف والسينما المستقلة ولمزج بين الأفلام التسجيلية وبين الأفلام الروائية، حيث تأخذ الأفلام التسجيلية الكثير من عناصر الفيلم الروائي لإعطاء الحدث الذي يجري تسجيله أبعادا أكثر امتدادا في الزمان وفي المكان وفي الشخصيات، فيما تعتمد الأفلام الروائية، خصوصاً التي تتعرض لأحداث تاريخية لمادة وثائقية، وهذا أضفى على فيلم "أبو زعبل 89" أبعادا فنية تستحق اهتمام من النقاد ومن دارسي فنون السينما.  

حوار بين الأجيال 

الكتابة عن فيلم أعاد بناء حدث سياسي تتداخل فيه أبعاد مختلفة مهمة صعبة، والمؤكد أن أي كتابة تتناول هذا العمل لن تحيط بجوانبه المتعددة التي تداخلت فيها خبرة شخصية لمخرج الفيلم ومؤلفه الذي تعرض لتجربة قاسية في سن مبكرة هي جزء من حدث سياسي واجتماعي كبير.. يبدأ الفيلم بتسجيل استند إلى رواية الأم عن يوم اعتقال الأب على خلفية إضراب عمال مصنع الحديد والصلب مع آخرين لإظهار الإضراب العمالي من أجل تحسين الأجور وظروف العمل، كما لو كان مؤامرة كبرى تستهدف نظام الحكم لتبرير فض الإضراب بالقوة المسلحة. 

يبدأ الفيلم بسؤال وجهه المخرج للأم عن السبب الذي دفعها لاصطحابه في أول زيارة للأب في السجن، مع مشاهد تفصيلية للتجهيز لوجبة من السمك المشوي للمعتقلين السياسيين، لنكتشف في تعليق رياض رفعت، أحد أبطال الفيلم في الحوار مع الجمهور أنها كانت أول طعام يتناولونه بعد أيام من التعذيب والحبس الانفرادي لم يذوقوا خلالها سوى الضرب المبرح والتعذيب والمياه. 

وغطت الصحف المصرية، وخصوصا صحيفة الوفد يوميات السجن في حملة سياسية متصاعدة ضد التنكيل بالمعتقلين السياسيين من تيارات يسارية في حادثة تنبئ هي الأخرى عن تحولات مهمة عابرة للأيديولوجيات، ورصد الفيلم هذه الواقعة التي مرت دون تعليق.. أسئلة كبرى طرحها الحدث ووثقها الفيلم وترك للمشاهد الحكم على دلالاتها. بينما كان المعتقلون على خلفية الإضراب العمالي من المنتمين لليسار المصري يواجهون تهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي عمالي ثوري، يعرض الفيلم لقطات وثائقية متتابعة عن إنزال تمثال لينين من الميدان الأحمر في موسكو وهدم جدار برلين وفض الجيش لاعتصام الطلبة المؤيدين للديمقراطية في بكين عام 1989، وحرب الكويت عام 1991، دون أن يضمن الفيلم أي رسائل مباشرة، لكنه يربط الأسئلة الخاصة التي كان يطرحها المعتقلون على أنفسهم والتي يطرحها أقرب الناس إليهم بشكل مباشر أو يضمرونها داخلهم.

الفيلم على مستوى من المستويات هو محاولة جادة وصادقة ومخلصة من المخرج للفهم، من ثنايا سردية للأم وسرديات أخرى، وعلى مستوى الأبناء الذين كانوا يسعون لكتابة روايتهم الخاصة للحدث، وهذه الرواية تشكلت في سياق وقائع في التاريخ العام لمصر منذ عام 1977 واغتيال الرئيس أنور السادات وصعود الرئيس مبارك للسلطة، وموقف هذه السلطة من الشعب التي ترى أنه لا يستحقها ولا يقدر ما تفعل من أجله، ثم مظاهرات ثورة 25 يناير وما تبعه من أحداث، وفي كل هذه الحوادث العامة ظلت المشاهد الخاصة بمصنع الحديد والصلب حتى تصفيته مؤخراً وتحول عنابره إلى ما يشبه الأطلال والخرائب، والمشاهد الخاصة بالسجن ملمحين بارزين في الفيلم. وعلى المستوى العام أيضا يناقش الفيلم سؤالين محوريين يتداخل فيهما المستوى الخاص والمستوى العام، السؤال الأول يتعلق بتقييم الجيل الأكبر لتجربته، وكيف يرى الجيل الأصغر تجربة الجيل الأكبر خصوصا على مستوى العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة. الإجابة على السؤال الأول، والتي جاءت أيضا في الحوار مع الجمهور تباينت، فهناك من رأي أن ما حدث لهذا الجيل هو انكسار وهناك من رأى أنها هزيمة مؤكدة، وهناك من رأى أنها محاولة في مسيرة متواصلة.

الفيلم قدم إجابته بلغة سينمائية، وهناك إجابة مباشرة طرحها المخرج في كلمته عندما أشار إلى أنه سعى للبحث عن إجابة لسؤال طرحه الأب المتشوق لمعرفة تقييم الابن للثمن الذي دفعه الأب ودفعته الأم ودفعه الابن شخصيا نتيجة لهذه التجربة المملوءة بالانتصارات الصغيرة والانكسارات الكبيرة. أشار المخرج أن إجابة هذا السؤال من خلال الفيلم لم تكن ممكنة قبل أن يصل إلى قرار محاولة البحث عبر السرديات المختلفة والذكريات قبل أن يؤكد أن هذا السعي لم يكن بدافع المحاكمة وإنما بدافع المعرفة وكتابة قصته الخاصة التي أشار بشكل واضح في حوار مع الأب عبر رسالة صوتية مسجلة على شريط كاسيت أن الوقت قد حان لكتابتها. الفيلم على مستوى ثالث هو محاولة جريئة للاكتشاف، اكتشاف الذات أولا، واكتشاف الآخر ثانيا من أجل خلق مساحات للتفاهم والإجابة على أسئلة وجودية في ظل واقع لا يمكننا أن نحيط بأبعاده وعلى خلفية وقائع لا نملك ما يكفي من معلومات وبيانات تعيننا على تفسيرها وفهمها، ولذلك انتهى الفيلم بمشهد يجمع الأب والابن أمام البحث بما يحمله ذلك من دلالات تتعلق بمدى اتساع الأفق والتساؤلات المفتوحة.

تتعدد الرؤى والمستويات داخل الفيلم لكن يظل السؤال الرئيسي الذي طرحه، بما ينطوي عليه من تشابكات تمس حتى رؤية للعلاقة بين المرأة والرجل، وأخرى تتعلق بمسيرة نضالية امتدت لعقود في تاريخ مصر الحديثة من أجل قضايا عامة وطنية واجتماعية، متجاوزا لتجربة المناضلين السياسيين، وهو سؤال يمس جوهر العلاقة بين الأجيال، وكيف يقيم الأبناء ما يفعله الآباء.. وهو فيلم جدير بالمشاهدة على نطاق واسع وجدير بالتحليل والنقاش.
-------------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

رسائل انتخابات الصحفيين وأولويات مجلس النقابة في الفترة القادمة